يبدو أن الخلاف والهجوم من قبل مقتدى الصدر وجماعته على مواقف آية الله السيستاني وأتباعه قد تفاقم منذ ظهور هذا التيار، ولاحقًا مع الهجوم الأمريكي على العراق في عام 2003. كان مقتدى الصدر في ذلك الوقت في أوائل العقد الثالث من عمره، وكان ينتقد علنًا المرجعية الشيعية في النجف ويصفها بـ”المدرسة الصامتة” التي تتخذ موقفًا سلبيًا تجاه الأحداث السياسية المحيطة بها، بينما كان يعتبر نفسه قائدًا وممثلًا لـ”المدرسة الناطقة”. تحت تأثير هذا النهج، بدأ يتشكل نوع من الفهم السياسي للإسلام بهدف جذب الجماهير.
بالطبع، في سياق الأحداث والتطورات في العراق، حاول تيار الصدر بقيادة مقتدى الصدر الاقتراب من مدرسة آية الله السيستاني. عامل آخر أدى إلى إبطال تركيز الصدر على “المدرسة الصامتة” هو الفتوى التاريخية لآية الله السيستاني ضد داعش، والتي كانت ضربة قوية وقاتلة لجسد الإرهابيين وداعميهم الأجانب، وكانت لها تأثيرات سياسية هائلة.وجه آخر للخلاف بين تيار الصدر ومدرسة السيستاني هو تأكيد تيار الصدر على العنصر العربي ونوع من القومية العراقية التي تهدف إلى سد الفجوة والضعف الاجتهادي والفقهي لمقتدى الصدر من جهة، ومن جهة أخرى لإنشاء تحالف مع الأكراد وأهل السنة في مواجهة الإطار التنسيقي الشيعي. في المقابل، تؤكد مدرسة السيستاني لدى نفسه وتلاميذه على وحدة العالم الإسلامي وتآزر المسلمين، وخاصة وحدة الشيعة، وفي هذا السياق، تعتبر أي تأكيد على العناصر الوطنية والقومية لتسليط الضوء على دورها أمرًا مذمومًا.في سياق هذه الخلافات بين تيار الصدر ومدرسة آية الله السيستاني، في أحدث حالة، اتخذ مقتدى الصدر موقفًا ضد السيد منير الخباز، أحد الشخصيات البارزة في النجف والمعتمد لدى آية الله السيستاني، وطلب منه العودة إلى السعودية. وُلد السيد منير الخباز في عام 1384 هجري قمري (1964 ميلادي) في القطيف، المملكة العربية السعودية. سافر السيد منير في سن الرابعة عشرة إلى النجف المقدسة لبدء دراسته في الحوزة العلمية. بعد فترة وجيزة، عندما كثف النظام البعثي العراقي قمعه للحوزة العلمية، هاجر إلى مدينة قم في إيران. عاد السيد منير إلى القطيف في عام 1402 هجري قمري لأسباب شخصية واستمر في دراسته هناك. بعد عام، سافر إلى دمشق للدراسة في الحوزة العلمية هناك تحت إشراف السيد جمال الخوئي. أخيرًا، في عام 1405 هجري قمري (1984 ميلادي)، عاد إلى النجف المقدسة لمواصلة دراسته. درس هناك لدى بعض العلماء المحترمين في الحوزة العلمية، بما في ذلك آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي وآية الله العظمى الشيخ مرتضى البروجردي. كما درس السيد منير بتوصية من أحد أساتذته الآخرين، السيد حبيب حسينيان، لدى آية الله العظمى السيد علي السيستاني واستفاد من دروسه في أصول الفقه. ثم عاد السيد منير إلى قم ودرس لعدة سنوات لدى آية الله العظمى وحيد الخراساني. كما درس لدى آية الله العظمى ميرزا جواد التبريزي الذي كان مرشده حتى نهاية حياته. قبل وفاته، أكد آية الله العظمى التبريزي أن السيد منير هو فقيه قادر على استنباط الأحكام الإسلامية من مصادرها.بالنظر إلى هذا التاريخ الجهادي في مجال التبيين والدفاع عن كيان الإسلام والشيعة ضد الشرك والإلحاد، كان السيد منير الخباز يركز على وحدة وتماسك الشعب العراقي والشيعة. كان يعتقد، مثل أستاذه، بضرورة الجهد المنظم والعابر للحدود لمواجهة التهديدات من الخارج. كانوا يعتقدون أن التهديدات تأتي من الجماعات شبه العسكرية المتطرفة مثل داعش ومن التدخلات الخارجية في المنطقة. لمواجهة التهديد الأول، اتخذ آية الله السيستاني في يونيو 2014 خطوة حاسمة وأصدر “فتوى الجهاد” وألزم جميع العراقيين القادرين على القتال ضد الإرهابيين بالانضمام إلى القوات الأمنية العراقية والدفاع عن وطنهم. كانت فتوى آية الله السيستاني هي الأساس لإنشاء “قوة الحشد الشعبي” في العراق.يمكن القول إن إحدى السمات البارزة للمسار السياسي لمدرسة السيستاني وتلاميذه هي العملانية والواقعية والمصلحة. كانوا دائمًا يؤكدون على أن العمل أهم من الكلام. المجتمع الإسلامي يطلب منا أن نكون عمليين، ولهذا السبب عندما زارتهم العديد من الأحزاب السياسية وتحدثت معهم عن الوحدة بين الشيعة والسنة ووحدة مختلف فئات الشعب العراقي، قال لهم بوضوح إنه لا يرى الوحدة في القول بل في العمل. ومن هذا المنطلق، استقبل مكتب آية الله العظمى السيستاني اللاجئين الإيزيديين والمسيحيين والسنة وقدم لهم المأوى والرواتب الشهرية والماء والطعام، وأرسل معتمديه إلى جبهات القتال لمساعدة الشعب والقبائل الشيعية والسنية. في فتوى الجهاد الكفائي وتوصياته للمقاتلين العراقيين، كان دائمًا يؤكد على مبدأ المواطنة وليس على الشيعية أو السنية أو أي عنوان ديني آخر. كان يؤكد دائمًا على الوحدة وعلى الجانب العملي للوحدة، ويعتقد أنه لا ينبغي أن تقتصر على القول. كانت هذه الحكمة والبصيرة والعملانية هي التي أدت إلى خلق جو من التضامن والتآزر في العراق، على عكس ما كان يسعى إليه تيار الصدر الذي كان دائمًا يعمق الخلاف بين الشيعة من جهة وبين المجموعات القومية والدينية الأخرى في العراق من جهة أخرى.يعتقد السيد منير الخباز بشأن القيادة العليا للثورة الإسلامية وعلاقتها بالمرجعية في النجف أنه لا شك في أن السلطات الدينية في العراق وإيران لديها آراء سياسية مختلفة. ومع ذلك، هناك العديد من الأسباب التي تشير إلى أنه عندما يتم تهديد أي من هذه القواعد الشيعية من قبل جهات خارجية، ستكون الأولوية الجماعية لكليهما هي الحفاظ على الوحدة. في هذا السياق، يجب تجنب أي إجراء يضعف سلطة المرجعية. من وجهة نظر السيد منير الخباز، بالنظر إلى أن إيران تُدار من قبل رجال الدين، فإن مدرسة السيستاني، حتى لو كانت لديها آراء مختلفة عن السلطات في الجمهورية الإسلامية، ترى أي تهديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية بمثابة تهديد للإسلام الشيعي.
بدون تعلیق