المقدمة
يجب فهم الوجود الصيني في غرب آسيا، وخاصة في العراق، في إطار تراجع الهيمنة الأمريكية وإعادة توزيع القوة في السياسة الدولية. غرب آسيا هي واحدة من أكثر مناطق العالم نزاعاً، والعراق هو مركز المنافسات السياسية والاقتصادية للقوى الكبرى الإقليمية وفوق الإقليمية. يجب اعتبار السياسة البراغماتية للصين في العراق في إطار المنافسة الاقتصادية لهذا البلد مع الولايات المتحدة، وفي هذا السياق، يلعب العراق دوراً خاصاً في عقيدة الأمن السياسي والاقتصادي للصين. تشير الأدلة إلى أنه مع توسع نطاق مشاركة الصين مع العراق في المجال الاقتصادي، تستخدم بكين نفوذها الاقتصادي للتأثير على الساحة السياسية في بغداد. في الوقت نفسه، يسعى العراق في إطار العلاقات والمعادلات الإقليمية المتغيرة إلى دور أكثر استقلالية وحكماً ذاتياً في المنطقة من خلال تحقيق التوازن مع الصين.
النفط مقابل إعادة الإعمار
في أكتوبر 2019، وقع عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي آنذاك، اتفاقية “النفط مقابل إعادة الإعمار” مع بكين. وفقاً لبنود هذه الاتفاقيات، كان من المقرر أن تتولى الصين إدارة المشاريع المتعلقة بتطوير البنية التحتية المدمرة في العراق مقابل استلام 100 ألف برميل نفط يومياً. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ الخطط اللاحقة للصين بسبب مخاوف بكين بشأن قدرة بغداد على تنفيذ التزاماتها. في هذه الأثناء، اندلعت احتجاجات ضد الفساد في جميع أنحاء العراق بعد وقت قصير من توقيع الاتفاقيات، مما أدى في النهاية إلى استقالة عبد المهدي وإلغاء الاتفاقيات المذكورة. سعى السوداني، رئيس الوزراء الحالي، إلى استئناف المبادرات المتوقفة من خلال توقيع “اتفاقية إطارية” في عام 2022، مما مهد الطريق لإحياء اتفاقية عام 2019. منذ ذلك الحين وحتى اليوم، زادت مشاركة الصين في العراق، حيث تشير التقديرات إلى أن إجمالي الاستثمار المباشر للصين وصل إلى 34 مليار دولار في عام 2023، مما جعلها أكبر مستثمر في العراق. من المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى ما يقرب من 50 مليار دولار، بزيادة قدرها 45٪ مقارنة بالعام الماضي. تشير هذه الديناميكيات إلى تراجع النفوذ الأمريكي في العراق. لذلك، من غير المستبعد أن تحول الصين نفوذها الاقتصادي إلى نفوذ سياسي. في إطار التوجه نحو الشرق، أدرك صانعو السياسة في بغداد الاختلاف في النهج الدبلوماسي لبكين مقارنة بالعواصم الأوروبية وواشنطن. على عكس الولايات المتحدة، تتخذ بكين خطوات بطيئة ولكن يمكن التنبؤ بها، وتركز سياساتها على سوق الاستثمار العراقي.
النفوذ الثقافي للتنين الأحمر في العراق
زادت المساعدات الصينية لإعادة إعمار العراق، بما في ذلك بناء المدارس والعيادات وتحسين الخدمات، من الإقبال العام على بكين بين الشعب العراقي. مثل هذه السياسات تزيد من شعبية الخطوات التي قد تتخذها الصين في المستقبل. في عام 2018، أعادت بكين افتتاح جمعية الصداقة العراقية الصينية؛ وهي جمعية تقدم دروساً في اللغة الصينية للعراقيين بأسعار منخفضة. في العام التالي، وفي خطوة مماثلة، مولت الصين إنشاء قسم اللغة الصينية في جامعة صلاح الدين في إقليم كردستان. في هذا السياق، يمكن القول إن الدبلوماسية الثقافية لبكين، التي تعتبر من أكبر مستهلكي النفط في العالم، هي حجر الأساس لاستراتيجيتها لضمان الوصول إلى ثروة العراق النفطية. من الجدير بالذكر أنه في العام الحالي، كانت الشركات الصينية في طليعة المناقصات للعديد من مشاريع استكشاف النفط والغاز الكبرى، في حين كانت شركات النفط الأمريكية الكبرى غائبة عند إصدار التراخيص؛ وهو أمر اعتبره المراقبون تجاهلاً من قبل الولايات المتحدة للعراق، حتى بعد زيارة شياع السوداني إلى واشنطن. ينظر صانعو السياسة العراقيون إلى الصين كقوة توازن حيوية في مواجهة القوى الأجنبية مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
الصين؛ رافعة توازن العراق في العلاقات الإقليمية
في العام الماضي، سمح البنك المركزي العراقي للمرة الأولى بتسوية الواردات من الصين مباشرة باليوان. ذكر المسؤولون المصرفيون العراقيون أن تقلبات سعر الدولار ومعدل التجارة المتزايد مع بكين كانت الدوافع الرئيسية وراء هذه الخطوة. تسعى بكين إلى تمهيد الطريق لنفوذها دون الضغط على صناع القرار المحليين، لذلك لا تولي هذه الدولة اهتماماً لقضايا مثل إنشاء الديمقراطية أو تنفيذ الإصلاحات السياسية. في عام 2018، وفي خضم الاتهامات الموجهة للصين بسبب دورها في حقوق الأويغور في شينجيانغ، دعمت بغداد بكين من خلال توقيع اتفاقيات مشتركة. في العام التالي، وقف العراق مرة أخرى وراء الصين؛ هذه المرة كان التوافق بين بكين وبغداد بارزاً فيما يتعلق بـ “قانون الأمن القومي” في هونغ كونغ. يعتقد المراقبون أن التوافق بين بغداد وبكين حول بعض القضايا المثيرة للجدل والحساسة بالنسبة للغرب يظهر مدى ابتعاد بغداد عن المدار الدبلوماسي لواشنطن. من منظور آخر، أصيب العراقيون بخيبة أمل من النهج المكلف وغير القابل للتنبؤ للولايات المتحدة في العراق. سياسات الولايات المتحدة في بغداد غالباً ما تكون غير موثوقة. إنها مؤقتة وتتغير مع تغير الإدارات في واشنطن. في العراق، زاد الميل نحو التوافق مع الصين كبديل للولايات المتحدة، ولهذا السبب فإن فرضية استقرار الصينيين في العراق ليست بعيدة المنال. خاصة أن العراق طلب هذا العام إنهاء مهمة بعثات الأمم المتحدة في العراق (يونامي) بحلول عام 2025؛ وهي مهام تعتبر في مصلحة واشنطن. رحبت روسيا والصين بطلب بغداد، لكن الولايات المتحدة رفضته. في الوقت نفسه، سعت الصين إلى التفاعل مع أعضاء هيئة التنسيق الشيعية التي تتمتع بعلاقات جيدة مع إيران أيضاً. من هذا المنظور، يرى السياسيون العراقيون الصين كرافعة توازن ضد الضغوط الإقليمية وفوق الإقليمية. لذلك، يسعون من خلال التقارب وتعميق العلاقات مع بكين إلى توفير دور أكثر استقلالية وحكماً ذاتياً للعراق في العلاقات الإقليمية والدولية.
بدون تعلیق