الباحث والکاتب : مسعود كيا
المقدمة
الفساد المالي هو من أكبر التحديات التي تواجهها المجتمعات الحديثة، حيث يمكن أن يُضعف الأسس الاقتصادية والاجتماعية للدولة. في العراق، يُعد الفساد المستشري من الأسباب الرئيسية للاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، وأصبحت الفضيحة المالية الكبرى، التي اشتهرت باسم “فساد القرن”، رمزًا واضحًا لهذه الأزمة. هذا الفساد لم يتسبب فقط في تبديد ثروات وطنية ضخمة، بل ألحق أيضًا ضررًا بالغًا بالثقة العامة في المؤسسات الحكومية والقدرات الاجتماعية للبلاد. في هذا السياق، سنتناول مختلف جوانب هذه الفضيحة، ونتائجها، والجذور الهيكلية للفساد في العراق.
تاريخ الفساد في العراق
للفساد في العراق جذور عميقة تعود إلى تاريخ البلاد. منذ عهد صدام حسين وحتى فترة الاحتلال الأمريكي، كان الفساد دائمًا سمة بارزة لأنظمة الحكم في العراق. ومع سقوط صدام وبدء حقبة جديدة، كانت هناك آمال بتقليص الفساد، لكن ضعف الأنظمة الرقابية وغياب الشفافية جعلا من الفساد عقبة كبرى أمام تنمية البلاد. ووفقًا لتقرير البنك الدولي، تم انفاق أكثر من 220 مليار دولار لإعادة إعمار العراق بين عامي 2003 و2014، لكن نسبة كبيرة من هذا المبلغ أُهدرت بسبب الفساد وسوء الادارة.
تفاصيل سرقة القرن
الفضيحة المالية المعروفة بـ “فساد القرن”، التي تم الكشف عنها في عام 2022، أظهرت أن 2.5 مليار دولار من الأموال العامة، التي كان من المقرر استخدامها لسداد ضرائب الشركات، قد تم تحويلها إلى حسابات شخصية وشركات وهمية. تم انشاء هذه الشركات قبل أسابيع قليلة من هذه المعاملات المالية، ولم تكن لها أي أنشطة تجارية حقيقية، بل كانت مجرد واجهة لارتكاب هذه السرقة. التحقيقات أثبتت أن هذه السرقة تمت بالتعاون مع بعض المسؤولين الحكوميين وتجار نافذين مثل “نور زهير” خلال فترة رئاسة مصطفى الكاظمي.
نتائج سرقة القرن
- تضرر الثقة العامة: أضرت هذه الفضيحة بشكل كبير بثقة الناس في المؤسسات الحكومية. في بلد يعاني سكانه من مشاكل معيشية، وبطالة، ونقص في الخدمات العامة، أثارت هذه السرقة البالغة مليارات الدولارات من الأموال العامة غضبًا واحباطًا عميقين بين المواطنين. ووفقًا لاستطلاع أُجري بعد هذه الفضيحة، أكثر من 70% من العراقيين يرون أن الفساد هو أحد أكبر المشاكل التي تواجه بلادهم.
- تعميق التوترات العرقية والدينية: الفساد في العراق لم يقتصر على القضايا الاقتصادية فقط، بل أدى أيضًا إلى تعميق التوترات العرقية والدينية بين المجموعات المختلفة. التوزيع غير العادل للموارد واستغلال بعض المجموعات للموارد العامة على حساب حقوق الآخرين زاد من هذه التوترات. هذا الأمر زاد من تعقيد الفجوات الهوياتية في العراق وأدى إلى زيادة عدم الاستقرار السياسي.
- تراجع الاستثمارات الأجنبية: أثر الفساد المستشري وغياب الشفافية في العراق بشكل كبير على الاستثمارات الأجنبية. فالعديد من المستثمرين الدوليين يتجنبون الاستثمار في العراق بسبب المخاطر العالية المتعلقة بالفساد وعدم الاستقرار السياسي. وهذا الأمر يشكل عقبة كبيرة أمام التنمية الاقتصادية في العراق.
- اضعاف سيادة القانون: من أبرز نتائج “سرقة القرن” هو اضعاف سيادة القانون في العراق بشكل أكبر. فعدم الجدية في متابعة قضايا الفساد، والحصانة التي يتمتع بها المسؤولون الفاسدون من العقاب، زادا من شعور الظلم في المجتمع. هذا لم يؤد فقط إلى زيادة الفساد، بل إلى تراجع الثقة العامة في النظام القضائي.
الجذور الهيكلية للفساد
الفساد في العراق له جذور هيكلية عميقة، والتي من دون معالجتها، لا يمكن توقع تقليص الفساد:
- مؤشر مدركات الفساد: وفقًا لمؤشر مدركات الفساد (CPI) الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتل العراق في عام 2021 المرتبة 157 من بين 180 دولة. يعكس هذا التصنيف عمق الفساد في هذا البلد ويظهر بوضوح كيف أصبح الفساد مشكلة هيكلية في العراق.
- النظام السياسي القائم على تقاسم السلطة: يقوم النظام السياسي في العراق على تقاسم السلطة بين المجموعات العرقية والدينية المختلفة (المحاصصة). هذا النظام لا يعزز الفساد فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى وصول أفراد غير مؤهلين إلى مناصب رئيسية بناءً على الولاءات السياسية والعرقية. هذا يؤدي إلى ضعف أداء الحكومة وزيادة الفساد.
- ضعف المؤسسات الرقابية: يعد غياب المؤسسات الرقابية المستقلة والفعالة أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الفساد في العراق. الكثير من المؤسسات الرقابية في العراق تتعرض لضغوط سياسية ولا تستطيع العمل بشكل مستقل وفعال. هذا أدى إلى انتشار الفساد في مختلف مستويات الحكومة وبقاء العديد من قضايا الفساد دون تحقيق جاد.
- ثقافة الافلات من العقاب: ثقافة الافلات من العقاب تعد أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الفساد في العراق. العديد من المسؤولين الحكوميين المتورطين في الفساد يتمتعون بحصانة من الملاحقة القانونية بفضل النفوذ السياسي أو الولاءات الجماعية، مما أدى إلى ترسيخ ثقافة الفساد بين المسؤولين الحكوميين حيث يتم استغلال السلطة دون خوف من العقاب.
الاستنتاجات
تُعد فضيحة “سرقة القرن” في العراق رمزًا للفساد المستشري والهيكلي في هذا البلد، الذي لم يُهدر فقط ثروات مالية ضخمة، بل أضعف بشكل كبير ثقة الجمهور في المؤسسات الحكومية. هذا الفساد أدى أيضًا إلى تعميق التوترات العرقية والدينية، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، واضعاف سيادة القانون. لمواجهة هذه التحديات، الاصلاحات الجذرية في الهياكل السياسية والادارية والقضائية في العراق ضرورية. على الحكومة العراقية تعزيز المؤسسات الرقابية، وتحقيق الشفافية في العمليات الحكومية، ومواجهة ثقافة الافلات من العقاب بجدية. اضافة إلی ذلك، يمكن أن يكون الدعم الدولي ومساندة المنظمات الدولية عاملًا مساعدًا للعراق في مكافحة هذه المعضلة. من خلال تنفيذ هذه الاصلاحات الشاملة، يمكن للعراق أن يخرج من دوامة الفساد ويتجه نحو التنمية المستدامة وإلا فان الفساد لن يؤثر فقط على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعراق، بل سيهدد أيضًا استقراره السياسي.
بدون تعلیق